06 - 05 - 2025

مؤشرات | كم أكرهك أيتها "الخصخصة"

مؤشرات | كم أكرهك أيتها

من أواخر الخمسينيات وخلال الستينيات ومطلع السبعينيات شهدت مصر ثورة صناعية حقيقية كانت نتائجها صروح صناعية تضاهي المصانع العالمية في كل المجالات، وتحولت مناطق مثل، حلوان والمحلة وكفر الدوار والإسكندرية ونجع حمادي، وغيرها، إلى خلايا عمل تدق شعار "صنع في مصر"، وتفتح أبوابها لمئات الآلاف من العاملين من عمال وفنيين ومهندسين وخبراء في القطاعات الصناعية المختلفة.

وتحولت مصر من بلد يعتمد على الزراعة إلى بلد له جناح إنتاجي آخر كبلد صناعي، يستغل كل موارده الطبيعية في الصناعة، تنفيذا لقرار جمهوري في هذا الوقت اتخذه الزعيم جمال عبد الناصر بألا تصدر خامات مصر للخارج إلا بعد إدخال عمليات صناعية عليها، وأصبح هذا القرار واقعا على الأرض من خلال صناعات الغزل والنسيج والحديد والصلب وغيرها.

إلا أن يد "التدمير" بدأت تعرف طريقها لهذه الصروح خصوصاً مع بداية التسعينيات، من خلال إهمال كاد أن يكون متعمدًا، لأي عمليات تطوير وصيانة حقيقية، إلا في أقل القليل، لتبدأ بعد ذلك موجة البيع والتصفية لعشرات الصروح الصناعية تحت شعار مكروه اسمه "الخصخصة"، بالتوازي مع اتفاق بين الحكومة وصندوق النقد الدولي بين العام 1991 و1993، وما تلي ذلك من سياسات تصفية للشركات المملوكة للدولية.

وكانت النتيجة وبحسب بيانات وزارة المالية والتقرير المالي الشهري في فبراير 2024، فإن عدد الشركات التي تم بيعها وتصفيتها على مدار الفترة 1993-2016، بلغت 282 شركة، بقيمة بلغت 53.6 مليار جنيه مصري، ومن بينها 34 شركة تم تصفيتها خلال هذه الفترة، وهناك أرقام ترفع العدد الإجمالي للشركات التي تمت خصخصتها إلى 382 مؤسسة مملوكة من الدولة.

ومن بين هذه الشركات الكبرى مصانع الحديد والصلب بحلوان والنصر للسيارات، والكوك والمراجل البخارية والمطروقات والنصر للهندسة، وشركات إنتاج الكاوتشوك والأسمدة، وقائمة طويلة من الشركات الكبرى التي تم محوها من تاريخ مصر.

وفي مرحلة لاحقة خرجت علينا الحكومة بطريقة جديدة للتخفيف من كلمات مثل "البيع والخصخصة" تم اسم "الطروحات" من خلال "وثيقة ملكية الدولة"، ولتنفيذ ما أسمته "الخطوات والإجراءات التي من شأنها تعزيز توجه الدولة نحو دعم ومساندة القطاع الخاص"، تطبيقا لدراسة أعدها مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء.

وأطلقت الحكومة بالفعل في منتصف العام الماضي 2023، مسودة وثيقة ملكية الدولة، والتي استهدفت خروج الدولة من قطاع الصناعات التحويلية خلال ثلاث سنوات بنسب متفاوتة، منها قطاعات الغزل والنسيج بنسبة 90%، والطباعة والتغليف بنسبة 78%، والصناعات الهندسية بنسبة 77%، والصناعات الكيماوية بنسبة 75%، والصناعات الغذائية والمشروبات بنسبة 73%، والصناعات الدوائية بنسبة 50%، والصناعات المعدنية بنسبة 40%، وهو تأكيد على استمرار سياسة البيع والتصفية لممتلكات الدولة، والتي هي في النهاية ملكيات للشعب.

تذكرت كل هذا وأن اتابع إعادة تشغيل مبدئي لشركة النصر للسيارات بعد توقف لسنوات طويلة، وباعتباري ولحكم كوني صحفي كنت ولسنوات طويلة متابعا لقطاع الصناعة في مصر، وقريب من هذا القطاع وبحكم معرفتي بعشرات وربما المئات من قيادات ونقابيي الشركات الصناعية والناشطين فيها، وعلى علم بتفاصيل كثيرة عن الصناعة المصرية، ولا أدعي أن كل خبر عن بيع أو تصفية شركة هو بمثابة مأتم لي اتساقا وتضامنا مع من أسسوا وعملوا وبنوا صروح مصر الصناعية، والذين كنت أرى الدموع في عيونهم.

وقبل أيام قادتني الظروف لزيارة منطقة حلوان الصناعية، وكم أحزنني حالة الهدوء التي تصل إلى "صمت القبور" في مجموعة من قلاع مصر الصناعية، والتي كانت تنبض بالحياة على مدى ساعات اليوم والأسبوع والشهر و365 يوميا في السنة، إلا أنها ترفع لافتة غير مكتوبة علي أطلالها "وداعاً"، "كانت تسكن هنا صناعة".

واليوم ومع بدء عودة شركة النصر للسيارات، يتأكد أن هناك الكثير من القرارات التي تم اتخاذها بالخطأ ضد هذا الوطن، وتحت ضغط وتوصيات وشروط وروشتات المؤسسات المالية الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، وأن الإصلاح والتطوير هو أفضل الحلول لإعادة عجلة الحياة لصروح مصر الصناعية.

ولا يمكن أن ننسى أن "النصر للسيارات"، هي التي كانت البداية لصناعة سيارات في مصر، وإن كانت البداية بسيطة، إلا أنها مهدت الطريق للشركات الخاصة، وإن كان هناك من يرى أن توقف النصر للسيارات، تم بهدف خبيث لإفساح الطريق للقطاع الخاص في مجال صناعة السيارات، مع كل الاحترام والتقدير للاستثمار الخاص ودوره، إلا أن لم يستطع أن يملأ الفراغ الذي تركته النصر للسيارات.

والكثيرون يتذكرون منتجات النصر للسيارات التي كانت أتوبيساتها تجوب شوارع القاهرة والإسكندرية، وطرق مصر من الشمال إلى الجنوب، والجرارات الزراعية، التي كانت تغطي حقول ومزارع مصر، بخلاف "اللوري"، ومن ينسى سيارات الركوب في شوارع مصر، "نصر "27 و28، وغيرها، وريجانا وشاهين ورينو وفلوريدا وتمبرا وبولنيز، وغيرها".. ومازال المئات منها يجوب شوارع المحروسة.

كل ما نتمناه أن تعود النصر للسيارات لسابق عهدها برؤية ومنتجات جديدة، وتدب الحياة في 480 ألف متر مربع، تمثل مساحة شركة عملاقة، وأن تكون فاتحة خير لإعادة النظر في كثير من قرارات الخصخصة والبيع و"الطروحات" فتاريخ مصر الصناعي، ليس من السهل أن تمحوه كلمة "الخصخصة" أو "الخوصصة" البغيضة، كما يقول عنها أهل المغرب العربي.
-------------------------------------
بقلم: محمود الحضري


مقالات اخرى للكاتب

مؤشرات | نتائج انتخابات الصحفيين وماذا جرى؟